تفسير : وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً




تفسير : وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً


وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا

بسملة وفواصل متحركة لتزيين المواضيع



في ظل زحمة المدنية الهوجاء، والمادية العرجاء، تزاحَمَ الناسُ على الدنيا، وتنافسوا فيها، وتسابقوا في جمعها، وغفلوا عن الغاية السامية التي خُلِقوا لأجلها، وهي عبادة رب الأرض والسماء، الذي أخبرَنا عن هذه الحقيقة، فقال: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].



وقد حث اللهُ نبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وكلَّ مؤمن من بعده - أن يذكره سبحانه، وأن ينقطعَ إليه انقطاعًا تامًّا، وألا يشغله غيرُه عنه، فقال مخاطبًا إياه: ﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ [المزمل: 8].



قال ابن كثير - رحمه الله -: "أي: أكثِرْ من ذِكره، وانقطع إليه، وتفرَّغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك وما تحتاج إليه من أمور دنياك؛ كما قال - تعالى -: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ﴾ [الشرح: 7]؛ أي: إذا فرغت من أشغالك، فانصَبْ في طاعته وعبادته؛ لتكون فارغ البال..، وقال ابن عباس: ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ [المزمل: 8]؛ أي: أخلِصْ له العبادة..، وقال الحسن: اجتهد وبَتِّل إليه نفسك"[1].



وقال ابن سعدي - رحمه الله -: "أي: انقطع إلى الله تعالى؛ فإن الانقطاع إلى الله والإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، والاتصاف بمحبة الله، وكل ما يقرِّب إليه ويُدْنِي من رضاه"[2].



وقال ابن جرير: "يقول - تعالى ذكره -: ﴿ وَاذْكُرِ ﴾ يا محمد، ﴿ اسْمَ رَبِّكَ ﴾ فادعُه به، ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ يقول: وانقطع إليه انقطاعًا لحوائجك وعبادتك دون سائر الأشياء غيره، وهو من قولهم: تبتَّلتُ هذا الأمر، ومنه قيل لأمِّ عيسى ابن مريم: البتول؛ لانقطاعها إلى الله، ويقال للعابد المنقطع عن الدنيا وأسبابها إلى عبادة الله: قد تبتل"[3].



معنى التبتل:

والتبتل هو: الانقطاع، وهو هنا انقطاعٌ مجازي؛ أي: تفرغ البال والفكر إلى ما يرضي الله، فكأنه انقطع عن الناس، وانحاز إلى جانب الله؛ فعُدِّي بـ: "إلى" الدالة على الانتهاء، قال امرؤ القيس:
تُضيء الظلامَ بالعِشاء كأنها
منارةُ مُمْسَى راهبٍ متبتِّلِ



والتبتيل: مصدر (بتَّل) المشدَّد، الذي هو فعل متعدٍّ، مثل التقطيع، جيء بهذا المصدر عوضًا عن التبتل؛ للإشارة إلى أن حصول التبتل - أي: الانقطاع - يقتضي التبتيل؛ أي: القطع.



يقال: بتلت الشيء؛ أي: قطعته، ومنه قولهم: طلقها بتة بَتْلة، وهذه صدقة بتة بتلة؛ أي: بائنة منقطعة عن صاحبها؛ أي: قَطَع ملكه عنها بالكلية، ومنه: مريم البتول؛ لانقطاعها إلى الله تعالى، ويقال للراهب: متبتِّل؛ لانقطاعه عن الناس، وانفراده بالعبادة، قال:
تُضيء الظلامَ بالعِشاء كأنها
منارةُ مُمْسَى راهبٍ متبتِّلِ [4]



والبتول من النِّساء: المنقطعة عن الرِّجال، لا أربَ لها فيهم، وبها سمِّيت مريم البتول.



وقيل لفاطمة - رضي الله عنها -: البتول؛ لانقطاعها عن نساء أهل زمانها ونساء الأمَّة عفافًا وفضلاً ودينًا وحسبًا، وقيل: لانقطاعها عن الدنيا لله - عز وجل.



وامرأة مبتلة الخَلق؛ أي: منقطعة الخَلق عن النساء، لها عليهن فضلٌ[5].



ولما كان التبتيل قائمًا بالمتبتل، تعيَّن أن تبتيلَه قطعُه نفسَه عن غيرِ مَن تبتل هو إليه؛ فالمقطوع عنه هنا هو من عدا الله تعالى؛ فالجمع بين تبتل وتبتيلاً مشيرٌ إلى إراضة النفس على ذلك التبتل، وفيه مع ذلك وفاءٌ بِرَعْي الفواصل التي قبله.



والمراد بالانقطاع المأمور به: انقطاع خاص، وهو الانقطاع عن الأعمال التي تمنعه من قيام الليل ومهام النهار في نشر الدعوة ومحاجة المشركين؛ ولذلك قيل: ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ ﴾؛ أي: إلى الله؛ فكل عمل يقوم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعمال الحياة، فهو لدين الله؛ فإن طعامه وشرابه ونومه وشؤونه للاستعانة على نشر دين الله، وكذلك منعشات الروح البريئة من الإثم؛ مثل: الطِّيب، وتزوُّج النساء، والأنس إلى أهله وأبنائه وذويه، وقد قال: ((حبِّب إليَّ من دنياكم النساءُ والطِّيب)).



وخلاصة المعنى:

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مأمور ألا تخلو أوقاتُه عن إقبال على عبادة الله ومراقبته، والانقطاع للدعوة لدين الحق، وإذ قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبلُ غيرَ غافل عن هذا الانقطاع بإرشادٍ من الله؛ كما ألهمه التحنُّث في غار حراء، ثم بما أفاضه عليه من الوحي والرسالة، فالأمر في قوله: ﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ ﴾ مرادٌ به الدوام على ذلك؛ فإنه قد كان يذكر الله فيما قبل، فإن في سورة القلم - وقد نزلت قبل المزمل -: ﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ﴾ [القلم: 51]، على أن القرآنَ الذي أنزل أولاً أكثرُه إرشاد للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى طرائق دعوة الرسالة؛ فلذلك كان غالب ما في هذه السور الأُوَل منه مقتصرًا على سَنِّ التكاليف الخاصة بالرسول - صلى الله عليه وسلم"[6].



والأصل أن يقال: "وتبتل إليه تبتُّلاً"، أو يقال: "بتِّل نفسك إليه تبتيلاً"، لكنه - تعالى - لم يذكرهما واختار هذه العبارة الدقيقة، وهي أن المقصود بالذات إنما هو التبتل، فأما التبتيل فهو تصرف، والمشتغل بالتصرف لا يكون متبتلاً إلى الله؛ لأن المشتغل بغير الله لا يكون منقطعًا إلى الله، إلا أنه لا بد أولاً من التبتيل؛ حتى يحصل التبتلُ؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: 69]، فذَكَر التبتل أولاً إشعارًا بأنه المقصود بالذات، وذكر التبتيل ثانيًا إشعارًا بأنه لا بد منه، ولكنه مقصودٌ بالغرض[7].



لفتة تربوية:

وفي هذه الآية لفتة "تربوية" مهمة، نأخذها من المصدرين: المحذوف: "تَبَتُّل"، والمذكور: "تَبتيل".



يدل المصدر الأول على التدرج والتكلف والمجاهدة؛ إن جملة: "تَبَتَّلْ إِلَى اللهِ تَبَتُّلاً" تدعو المؤمن - والمؤمنة - إلى مجاهدة النفس، وإجبارها على التبتُّل، وإلزامها به، وفي هذه المجاهدة من التكلف والعزم وقوة الإرادة ما فيه؛ لأن النفس تكره الالتزام والانضباط، وتحب التفلُّت والترخُّص، وإذا تركها المسلمُ على هواها، فإنها تتركُ الأمر وتتخلى عنه؛ ولذلك لا بد من أَخْذِها بالشدة؛ حتى تلتزمَ وتستقيم.



ويدل المصدر الثاني: "تَبْتِيل" على التكثير، فمن بَتَّلَ نفسه إلى الله تبتيلاً، فقد أكثر من الانقطاع إلى الله[8].



التبتل الحقيقي:

والتبتل الحقيقي يجمع أمرين؛ كما قال ابن القيم - رحمه الله -: التبتل يجمع أمرين: اتصالاً وانفصالاً، لا يصحُّ إلا بهما.



فالانفصال: انقطاعُ قلبه عن حظوظ النفس المزاحمةِ لمراد الربِّ منه، وعن التفات قلبه إلى ما سوى الله؛ خوفًا منه، أو رغبة فيه، أو مبالاة به، أو فكرًا فيه، بحيث يُشغَل قلبُه عن الله.



والاتصال: لا يصحُّ إلا بعد هذا الانفصال.



وهو اتصال القلب بالله، وإقباله عليه، وإقامة وجهه له، حبًّا وخوفًا ورجاءً، وإنابة وتوكُّلاً[9].



حاجتنا إلى التبتل:

ونحن اليوم في حاجة ماسة إلى التبتل؛ وذلك بالانقطاع عن الخَلق، والاتصال بالخالق، قال ابن العربي: "وأما اليوم وقد مرجت عهودُ الناس، وخفَّت أماناتهم، واستولى الحرامُ على الحطام، فالعزلة خير من الخلطة، والعز به أفضل من التأهل"، يقول هذا الكلام في زمانه، فكيف لو رأى زماننا، فما عساه أن يقول؟! وقال أيضًا: "عند فساد الزمان يكون خيرُ مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواقع القَطْر، يفرُّ بدينه من الفتن"[10].



خطوات التبتل:

للتبتل أربع خطوات:

1 - قطع رغبة النفس في المدح؛ فلا يحب المدح، أو يستوي عنده المدح وعدمه.



2 - قطع رغبة النفس إلى الشهرة ورؤية الناس؛ فالرياء لا يجد لقلبه طريقًا.



3 - قطع رغبة النفس إلى الإمارة والرئاسة، سواء في الدين أو الدنيا، لكنه دائمًا يدعو ربه أن يجعله للمتقين إمامًا.



4 - قطع رغبة النفس إلى العلو في الأرض، وتبوء معالي المراكز والسلطان للعلو فيها، والحصول على طاعة الناس، وقهرهم، والسيطرة عليهم[11].



نساء متبتلات:

مريم البتول انقطعت إلى الله؛ فآثرها على نساء العالمين، وأجرى لها من الكرامة ما أجرى؛ ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ﴾ [آل عمران: 37].



وهذه آسية انقطعت إلى الله، وآثرتْه على الملك والجاه، فآثرها اللهُ بالقرب منه في جنته ودار علاه: ﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 11].



التبتل لا يعني غفلة الإنسان عما يحل بإخوانه من مصائب:

وتبتل العبد لربه لا يعني مطلقًا غفلتَه عما يدور حوله، أو عما يحل بإخوانه من مصائب؛ قال صاحب القواعد الحسان، ص (115): "ومثل هذه العبادة تُلازِم الإنسانَ في كل زمان ومكان لا تنفك عنه؛ فهو بين الناس بجسمه، ولكن رُوحه تطوف حول العرش، يكلمهم بمحياه ولسانه، لكن مشاهدة عظمة الله وجلاله في سويداء جنانه، يفرح مع الناس لفرحهم، لكن قلبه قد مُلئ وجلاً وخوفًا وخشية من ربه، يحزن مع الناس لحزنهم، ولكن فؤاده قد مُلِئ أنسًا ورضًا وحبورًا بما قضى اللهُ وقدر، إنه ذلك الحاضر الغائب، الموجود المفقود، بين الهياكل والصور، والأجسام والغِيَر".



صور التبتل المشروع:

التبتل: منه ما هو مشروع، ومنه ما هو ممنوع؛ فالمشروع هو ما جاءت نصوصُ الكتاب والسنَّة بالأمر به، والحث عليه، والترغيب فيه، ولذلك صور عدة، منها:



أولاً: تحقيق التوحيد، ونفي الشريك: قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]؛ أي: اعبدوا الله وحده لا شريك له، واجتنبوا الطاغوت بجميع صوره وأشكاله.

google-playkhamsatmostaqltradent